قراءة للأديب الأستاذ /عبدالكريم الخياط ، في أبيات (وطَنٍ يَحْتَضِر) للشاعر / منصر السلامي

23-09-2020 11:07:04    مشاهدات359


واي إن إن - خاص


تروي كتب التراث وبعض المصادر أن أباتمام
امتدح الخليفة أحمدَ بن الخليفة المعتصم في قصيدة مطلعها:
ما في وقوفك ساعةً من باس
تقضي ذِمامَ الأربُعِ الأدْراس
فلما بلغ قوله:
إقدامُ عَمْرٍو في سَماحةِ حَاتِمٍ
في حِلمِ أحنَفَ في ذَكاءِ إِيَاسِ

قال يعقوب بن إسحق الكِندي ناقدًا، وربما أراد الطعن عليه:
"إن الأمير فوق ما وصفت، ولم تزد على أن شبهته بأجلاف العرب، فمن هؤلاء الذين ذكرتهم؟ وما قدرهم؟"

أطرق أبو تمام قليلاً، فحضره بيتان ارتجلهما، على نفس الوزن والقافية:
لا تنكروا ضربي له مَنْ دونه
مثلاً شرودًا في الندى والباس

فالله قد ضربَ الأقلَّ لنوره
مثلاً مـن المِشكـاة والنبراس
قيل: أخذ الكندي الرقعة التي كان قد دوّن فيها القصيدة، فلم يجد فيها هذا الرد المفحم فقال متفرسًا:
"إن هذا الرجل لنْ يعيش طويلاً، لأنه ينحِتُ من قلبه".
________

إن القصة السابقة تضع أمامنا أن الشاعر أباتمام يتمتع بفطنة وذكاء وسرعة بديهة جعلته محط أنظار كل الحاضرين ...
وما جعلني أتذكر تلك القصة هو انفعالات الشعراء - عبر المساجلة الشعرية - في عدة منتديات والتي منها : ( منتدى
أقلام عربية ) عبر الواتس، وهو الذي تصدر باسمه ( مجلة أقلام عربية) التي ترأس تحريرها الشاعرة اليمنية المبدعة الأستاذة/ سمر الرميمة، وهي مجلة أدبية تمضي في عامها الرابع تجمع تحت راية الأدب كل حرف يضيء الدروب الحالكة ومن أنحاء الوطن العربي قاطبة وتصدر في الــ20 من كل شهر. .
وفي المنتدى نفسه تحدث مساجلات بين شعراء رائعين ، وفي يوم الثلاثاء 2020/9/22 وأنا أتصفح المشاركات استوقفتني مساجلة ، أستطيع أن أسميها : (المساجلة المؤرقة)، ورأيت انهمار الأبيات " السَّلامِيَّة" وهي نسبة للشاعر اليمني المبدع الشاب الأستاذ/ منصر السَّلامي، الذي يعيش بين أفياء شهر سبتمبر الذي انطلقت فيه ثورة 26سبتمبر اليمنية التي تحيينا اليوم
وهي تحتفل بعيدها الثامن 58والخمسين، ولكنه ليس كبقية الأعياد،فقد شاب رأسها ووهن عظمها وخفت بريقها وشحب وجهها ، ولازالت تعصف بأرضها الريح الصرصر العاتية لسِتِّ سنواتٍ عجافٍ ترمق للسابعة غير آبهة بما خلَّفته
من دمار وتشريد وتشتيت وتمزيق وتفتيت...
★ من حرقة الآه المشتعلة في حنايا الحروف التي اضطرمت بها المعاني تدَفَّقت نار المشاعر عند ( الشاعر السلامي ) تلتهم كلَّ زيفٍ وتضليل ، وتبدِّد كلَّ تضخيم وتهليل ، ووضعنا على جوديِّ الحقيقة التي لاغبار عليها وبدون أدنى زيف، واضعا أمامنا قرائن ودلائل لايمكن أن يتجاوزها من آتاه الله عقلا ، وكأنه يذكرنا بقوله تعالى:
{إِنَّ  فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيد37ٌ }،"ق" ،
وهنا يجعلنا نعيش في صراع مرير مع الذكرى التي تحتضن في طياتها الوطن، وأيُّ وطنٍ؟
إنه موئل العروبَة والمجد والسؤدد. ..إنه ( اليمن)..
اليمن ..الذي ماإنْ يذكره التاريخ حتى ترتعد فرائصه ...اليمن الذي أشرقت شمسُ الحضارة على أرضه، وأبَتِ الغروبَ مِن على أمجاده لقرون مضَت...وكان السؤال : من أين أنت ياأخا العرب؟ تشرِّفه الإجابة : أنا من اليمن... فيحظى الشخص المجيب بحفاوة وتكريم وحسن ضيافة..
وغني عن الذكر ماكتبه المؤرخون وأثبتته كتب التراث عن اليمن؛ لذلك سأكتفي بذكر مارصده بعض الرحالة عن اليمن:
ففي كتاب"اليمن-رحلة إلى صنعاء 1877-1878م لمؤلفه الرحالة الإيطالي زنزو مانزوني"
، قال عن صنعاء:
(المدينة جميلة جداً، والبيوت رائعة وكبيرة ومبنية بأكملها من الحجارة المقطّعة والآجُر الأحمر البُنِّي، أما الطرقات فواسعة ونظيفة، والناس أنيقون وجليلون).
وكان الرحالة والأديب اللبناني أمين الريحاني قد زار اليمن في عام 1922، ومما قاله في صنعاء أيضا في كتابه الشهير "ملوك العرب"
: (أجل، إنَّ صنعاء في محاسنها لا تُخيِّب للزائر أملاً، وكُلَّما دنوتَ منها، وهُو عكس الحقيقة في أكثر المدن، ازداد رونقها وازداد إعجابكَ بها، هي في مقامها الطبيعي فريدةٌ عجيبة، فيها الهواء أعذب من الماء، والماء أصفى من السماء، والسماء أجمل من حُلم الشُّعراء)،
ومما قاله الريحاني من وصفٍ بديعٍ مع مدينة إبّ : (كأنَّها حفنةٌ من اللُّؤلؤ على بساطٍ أخضر مفروشٍ في بُحيرةٍ جفَّت مياهها).
وكان الرحالة الألماني "هانز هولفريتز " قد زار اليمن ووصل حضرموت عام 1930، وقال عنها : (إن حضرموت كانت وافرة الثراء للغاية، إذ كانت المصدر الرئيسي لإنتاجين كانا من أهم المنتجات في العصور القديمة، وكان الأقدمون يدفعون فيهما أغلى الأثمان وهما البخور والمر. وأصبحت حضرموت منذ ذلك الحين تسمى بلاد البخور. ومازال معظم البخور الذي يستعمل في الكنائس المسيحية حتى اليوم يستورد من حضرموت).
وعودا على بدء فإن اليمن اليوم تعيش دقائق وساعات وأياما عصيبة لم تكن في مخيلة أيِّ مؤرخ يرصد لها محطات النكوص التي أودت
بها نحو أحضان السباع التي قادتها نحو لُجَجِ الضياع ..
اليمن أصبحت وأضحت وباتت وأمست ومازالت وماانفكَّت وظلت مثخنة الجراح تفتك فيها العلل من كل جهة ، وهذا ماجعل شاعرنا اليمني ( منصَّر السلامي) يبدأ سجاله باستفهام متصل بالنفي ليخرج إلى تقرير ماهو واقعي معاش:
أمَا علمْتُم بأنِّي شاعرٌ يمني
وأنَّ جُرْحي عميقٌ مِثلمَا وطني؟
وهنا يتضح لنا انّ الشاّعر يرتحل التّعبير عن هموم وطنه
متخذا القريض وسيلته الأسرع لإيصال مايريد إلى المتلقي والقارئ والسامع والمشاهد لأن الشعر يحدث أثره البالغ في النّفس ، وهذا ماجعله يؤكد أن كتابته للشعر ليست عبثية أو من سقْط المتاع ، وإنما ضرورة ملحَّة فرضتها الحرب المسعورة التي رسمت لليمن فصولا من المآسي لاطاقة لليمنيين على احتمالها، وهذا واضح بيِّن في قوله:
وأنَّني قد كتبْتُ الشعرَ في زمنٍ
ما عادَ بالحرب من فَرْط الأسى زمني

ويعترف " ابن السلاميّ" أنَّه مهما قرض من أبيات شعرية ولو بلغت حتى عنان السماء فإنها لاتسمن ولا تغني من جوع المتحاربين الذين يتوقون إلى المزيد من إسالة الدماء:

هذي القوافي إذا جمّعْتُها وصلَتْ
في الأفْقِ للشمس لَكِنْ دونما ثمنِ
ولاغرو إن كأن الشاعر هنا يوميء لنا بطرف خفيٍّ أنَّ صوت العقل مَغَيَّبٌ بين أساطين الحرب الذين لازالوا يفرضون على الكَمِّ الجَمْعي مايروق لهم من دوي للقذائف وأزيز للرصاص،
فمهما ارتفع الخطاب الشعري ليعلي من شأن الحب والتسامح والتآلف فإنه سيستحيل إلى ذكرى مطويَّة في غياهب النسيان لاطائل لها بإخماد الحرب أو بدرء الأخطار التي تحمله رؤوس الفتن التي تتنوَّع في تأثيراتها سلبا على حياة كل فرد يمني لسان حاله ماقاله الشاعر :
قصائدُ الأمسِ ذكر. ى في الهوى طُوِيَتْ
واليومَ لا شيءَ غيرُ الحربِ والفتَنِ
ولازال الشاعر يورد أدلته وأنه جأر بأعلى قوافيه يدعو أولئك الضاغطين على أزْنِدَة البنادق ، وتسارع قوافيه المرَّة تلو الأخرى في السر والعلن ، لكنها تعجز فتلوذ للاستعارة المكنية "مرفأ الروح" التي غالبا ماكانت تبتهل في محراب الحب في الزمن الغابر فيسمع صوتها ، وأما الحاضر فإنَّ ذِكرَ (كم الخبرية) لايُجدي معه، وهذا ماثل أمام عيوننا في قوله:
وكَمْ تنزّت قوافينا وكَمْ وقَفَتْ
في مرفأ الروحِ بينَ السِّرِّ والعلَنِ

ويستوقفنا الشاعر أمام حقيقة مؤسفة بعدم جدوى أيِّ حلول ، فكل الأبواب لنزع فتيل الحرب مغلقة ، ووصل الأمر مداه أنْ عميَت أبصار ذوي الحجَى، وواصلت ( حتى) مسير غايتها حتى وصلت نحو الجماد (الشبابيك لاترى شجني)
في استعارة مكنية يشط فيها نمط تأويل الحزن المطبق عليها من الجهات الأربع من جراء انعدام الجدوى:
مَا نفعُها اليومَ والأبوابُ مقفلةٌ
حتى الشبابيك فيها لا تَرَى شجَني

ولازال صوت الأنين يفرض نفسه على مساحات كبيرة
من النفوس التي تعرَّضت لهزات عنيفة ضعضعت ارتفعت وتيرتها على درجة ( ريختر المشاعر ) إلى مستوى " السّحْق" الذي خلخل تجمُّع صنعاء وعدن في وحدة الجسد الواحد :
تئِنُّ فيها شواطي البَوْحِ مُذْ سُحِقَت
مشاعرُ الحبِّ في صنعا وفي عدنِ

ويلجأ الشاعر في البيت السابع إلى " قالوا" ليقسم القصيدة إلى نصفين ، وهو يريد أن يُلقي اللوم صراحة على مَنْ أخبرونا بأننا سنعيش زمنا آخر يسوده الحب والألفة والمودة واضعين كل قضايا الخلافات في "الصندوق الأسود" من ذكرياتنا، وأنهم رسموا لنا أحلاما وردية تتعالى على مخلفات الماضي المليء بقضايا شائكة ساقها الشاعر في حنايا الاستعارة التصريحية (التجاعيد) ، ويؤكد أنَّ عهد الازدهار قادم لامحالة ولن يستثني بخيره الوفير وبرا أو مدرا :

قالوا بأنَّا رسمْنَا حبَّنا قُبَلًا
فوقَ التجاعيدِ بين البؤسِ والمحَنِ

وأنَّنا في ربيعِ العُمْرِ سوف نرى
قوافلَ الزَّهْرِ في الأريافِ والمُدُنِ

فيستدرك أن كل ماقالوه ليس إلا نسبة من التخدير الموضعي للعقول ليتجه التفكير نحو تحقيق الأحلام على الواقع الذي امتلأ بألغام من الأوجاع والأحزان تفجَّرت هنا وهناك ووضحت الحقيقة بجلاء أننا نعيش غربة في وطننا وهو شعور قاسٍ لايمكن وصفه ضمن مصفوفة الغُبن التي ستظل ملازمة لغالبية من السواد الأعظم ممَّن غطُّوا في سبات عميق أودى بنا جميعا على حافَّة الانهيار :
لكنَّنا ما جَنَيْنا غيرَ غُربتِنا
وما رأينا سوى الأوجاعِ والحَزَنِ

ويالها من حقيقة مُرَّة - حاولنا مغالطة أنفسنا بتجاوزها - تدفع ببعضنا البعض وتُسْلِمنا قسْرًا لسيناريو الشتات والتشرذم لتقنعنا ظلما وبهتانا أننا ماخُلقنا إلا لذلك، وهذا هو مخطط للفراق لا للاتفاق ، رسمته بعناية نوايا من المكر في دهاليز الخُبث الخاضعة لشياطين التآمر المنكفئة على نفسها تنسج خيوط التباعد صباح مساء، ولافرق بين من يبذل جهوده للهدم أهو من الداخل أم من الخارج، فكلهم شياطين في لبوس أناسيّ لاتدفع عنهم الذنب لأنهم توجهوا لغير الله في تقربهم ومحاباتهم :
كأنِّنا قد خُلِقْنا للشَّــــتاتِ ولَم
نَمُرّ يومًا بعهدٍ عاطِـــرٍ وسنــِـي

وعادَتِ النَّارُ عادَتْ خلْفَ مَنْ
نفَخُوا
كِيرُ السلاطينِ بينَ الوحْلِ
والعفِنِ

لا فرْقَ في الأمْرِ فالحُكَّامُ قد نكَثُوا
ومَنْ يُصَلِّي لهـُـــمْ صَلَّى إلى الوثَنِ

وهنا نقف على فيصل القول الشعري المغموس في عمق الحقيقة التي ظللنا - ردحا من الزمن - نغالب أنفسنا بعدم وقوعها ممَّن ينتسبون للبشر ، لكننا نسينا وربما أنسانا هول الوقائع وسيل الفجائع أننا نعيش مع أناس تنصَّلُوا من آدميتهم وانحدروا لعالم الوحوش التي تنقاد لقانون الغاب قسْرا أو طوْعا، وبذلك وضعنا الشاعر أمام نهاية أبرزت لنا شدَّة الآلام التي ستظل تلازمنا ردحا من الزمن :
هُمْ شيَّعُونا على أكتافِهم ومَضَوا
وقبْلَنا في الرَّدَى صلَّوا على اليمنِ
وكأننا مجبورون على القبول بوطن يحتضر في كل الثواني والدقائق التي تمرُّ على حالة موت سريري لاتنفعه أجهزته الإفاقة لأنه أُفْرِغَ من كل طاقَة.
الشاعر اليمني المبدع، والمُساجل الممرِع/ "منصر السلامي" لا أريد أنْ أزجي إليه مقولة الكندي ، بل أريد أن أسقطها على الوطن بشيء من التحوير : ( إن هذا الوطن لن نعيش عليه طويلا ؛ لأنه ينزف من قلبه)..
---------------------------------
المادة خاصة لموقع واي إن إن
إعلان
تابعنا
ملفات