على تخوم مخزن "أسلحة القيامة" الروسي.. ماذا يعني انضمام فنلندا إلى الناتو؟

05-04-2023 11:48:38    مشاهدات228

واي إن إن - متابعات

"حينما ننظر إلى ما وراء حدودنا اليوم، نرى فنلندا في الجانب المقابل؛ إذا انضمت فنلندا إلى الناتو، فإننا سنرى عدوًّا". كانت هذه كلمات الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في مقابلة سجّلت معه في وقت ما من عام 2016. في ذلك الوقت، بعيد ضمّ روسيا جزيرة القرم، كان الكرملين ينظر إلى الجارات الثلاث، فنلندا وأوكرانيا والسويد، باعتبارها حليفة محتملة لـ"الناتو"، رغم أنها كانت تقف جميعًا، في سياساتها المعلنة على الأقل، على الحياد. لكن ما ظلّ في طور الفرضيات صار واقعًا اليوم، فمع انضمام فنلندا رسميًّا إلى الحلف العابر للأطلسي، أعلنت عن نفسها دولة عدوّة لروسيا، والأمر ليس معطوفًا على تصريحات الرئيس الروسي في عام 2016 فحسب، بل على العقيدة الخارجية الجديدة لموسكو، المعلنة قبل أيام وحسب، والتي صنّفت الولايات المتحدة والغرب في خانة الأعداء.
الفارق في حالة فنلندا هو أنها تتشارك حدودًا بطول 1300 كم مع روسيا، وهي تقريبًا مساوية للحدود التي كان تتشاركها الأخيرة مع أعضاء "الناتو" قبل تاريخ الرابع من إبريل/نيسان، وظلت، حتى الأمس القريب، تحافظ على جبهة هادئة مع الجنوب الروسي، وصلات وثيقة مع موسكو في كل القطاعات، وسياسة رصينة من عدم الانحياز والاستنكاف عن العسكرة؛ فما الذي تغيّر اليوم؟ وماذا يعني وجود "الناتو" على مرمى حجر من البرّ الروسي؟ وكيف ترفع هذه الانعطافة أسهم الأسلحة النووية في الشمال العالمي؟.
أول الردود الروسية في بيلاروسيا
النبرة التي تحدّث بها المسؤولون الروس حينما خرجت فكرة انضمام فنلندا والسويد إلى النور، في وقت مبكر من الحرب الأوكرانية، تغيّرت الآن. في ذلك التوقيت، اكتفى بوتين بالإشارة لنظيره الفنلندي، سولي نينيستو، إلى أن تخلي بلاده عن حالة الحياد يعتبر "خطأ، إذ لا يوجد تهديد لأمن فنلندا"؛ بل إن حاكم الكرملين ذهب في التقليل من أهمية الخطوة إلى حدّ القول، في تصريح آخر، إن بلاده "لا مشكلة لديها" في انضمام السويد وفنلندا لـ"الناتو". لكن واقع الحال كان ينبئ بغير ذلك، فانضمام فنلندا يعني عمليًّا تطويق روسيا بحدود "الناتو" السيادية من متنفّسها الشمالي، ومدّ منطقة التماس من المحيط المتجمّد الشمالي إلى بحر البلطيق، الذي عُرف تاريخيًّا بأنه ساحة نفوذ لروسيا. في ظلال الحديث الروسي الرسمي "الناعم"، كان مركز أبحاث cyberleninka التابع لوزارة الدفاع، على سبيل المثال، يدعو إلى التعامل مع هذا التحول باعتباره "الأشد أولوية" بالنسبة لمستقبل الأمن القومي الروسي. على الضفة الأخرى، وفي الفترة الزمنية ذاتها، أصدر "مركز الأمن الأميركي الجديد" في واشنطن- وأحد مؤسسيه، وهو كورت كامبل، يشغل اليوم منسق شؤون المحيطين الهندي والهادئ- تقدير موقف خلص فيه إلى تحذير الحلفاء في "الناتو" من عدم الركون إلى اللغة الروسية الهادئة، ومن أن الرد الروسي لا مناص منه، بالنظر إلى أن الخطوة "ستغيّر المشهد الأمني في أوروبا بالكامل".
بإعلانه تزويد بيلاروسيا بأسلحة نووية، بدا أن الرئيس الروسي يعيد الجغرافيا، جزئيًّا، إلى الحالة التي كانت عليها زمنَ الاتحاد الأوروبي، حينما كانت ذراع روسيا النووية تمتد إلى قلب أوروبا
تغيّرت لغة ساسة الكرملين بالفعل، إذ أعلن الرئيس الروسي، قبيل البيان المرتقب حول انضمام فنلندا، إرسال "أسلحة نووية تكتيكية" إلى بيلاروسيا، وهي التي سلّمت في السابق ذخيرتها النووية طوعًا إلى روسيا، بعد جهود كبيرة بذلتها الولايات المتّحدة مع آخر الرؤساء السوفييت، ميخائيل غورباتشوف، لتطويق انفراط الترسانة النووية عبر الجمهوريات السوفييتية المشظّاة. بإعلانه هذا، بدا أن الرئيس الروسي يعيد الجغرافيا، جزئيًّا، إلى الحالة التي كانت عليها زمنَ الاتحاد الأوروبي، حينما كانت ذراع روسيا النووية تمتد إلى قلب أوروبا.
البادرة الاستباقية للرئيس الروسي تبعها تعقيب آخر من وزير الدفاع الروسي، سيرغي شويغو، فور إعلان خبر انضمام فنلندا إلى "الناتو". الوزير الروسي قال إن بلاده زوّدت فوجًا من المروحيات والطائرات البيلاروسية بتكنولوجيا استخدام الأسلحة النووية (وهي صناعة مختلفة عن القنابل النووية بحد ذاتها)، كما سلّحت جيشها بصواريخ "إسكندر-م" الباليستية، وهي القادرة على حمل رؤوس متفجرة تقليدية ونووية على حد سواء. عدّ الوزير الروسي كلّ هذه الخطوات "استجابة لزيادة الاستعداد الحربي للقوات المشتركة لحلف شمال الأطلسي، وتكثيفها أنشطتها الاستخباراتية بالقرب من حدود روسيا وبيلاروسيا". بالتوازي مع ذلك، كان موقع "Reformation" البيلاروسي يعرض صورًا لجنود من القوات الوطنية، قال إنهم ذاهبون إلى روسيا في مهمّة تدريبية على استخدام صواريخ "إسكندر" وتجهيزها للإطلاق وتكييفها مع الرؤوس النووية.
في الجانب المقابل، بدا أن الحلفاء الغربيين حاولوا- في وقت متأخّر- استدراك تلك الخطوة، لكن عبر تحييد اللاعب البيلاروسي هذه المرّة، بدلًا من تأجيل المسعى الفنلندي، أو التواصل المباشر مع موسكو. في هذا السياق، ينقل موقع "Intelligence online" الفرنسي، المتخصص في تتبع الأنشطة الاستخبارية، أن رئيس الاستخبارات الفرنسية، بيرنارد إيمي، زار مينسك في الرابع والعشرين من مارس/آذار الماضي، واجتمع بالرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو؛ إلّا أن المحادثات كانت عاصفة وانفضّت سريعًا، ليعود المسؤول الفرنسي إلى باريس في غضون ساعات قليلة. بعد يوم من ذلك، أطلق بوتين تصريحه عن موافقة بيلاروسيا على نشر أسلحة نووية تكتيكية على أراضيها.
ماذا تضيف صواريخ "إسكندر" البيلاروسية استراتيجيًّا؟
رغم أن الواقع المستجد على الحدود الفنلندية كان يبرر تحصينًا روسيًّا في الشمال، فقد بدا أن روسيا تجاوزت، رمزيًّا، التموضع في صورة المدافع، إلى المبادرة ما وراء حدودها. الرد الروسي جاء غربًا، ضمن حدود "العداوة" التي رسمتها روسيا آنفًا في عقيدتها الخارجية، في مناورة تحمل من الرموز قدر ما تحمله من الأثر العملي الاستراتيجي. تشي هذه المناورة بأن روسيا لا تستشعر تهديدًا فعليًّا قادمًا من الشمال، وأنها لا ترى المتغيرات إلا على الخريطة الجيوسياسية، وبمنظور المدى البعيد، وحسب. بمعنى آخر، منذ كانت توسعة حدود "الناتو" إلى التخوم الشمالية لروسيا، ردّ الغرب على محاولة روسيا إعادة رسم خريطة نفوذها عبر حرب أوكرانيا، جاءت الإجابة الروسية بالتوسع والانتشار النووي إلى مدى أبعد في أوروبا.
من هنا تأتي أهمية صواريخ "إسكندر" الباليستية في ميزان الردع الاستراتيجي الروسي؛ أوّلًا لميزاتها التشغيلية؛ فهي -عدا عن كونها مصمّمة لتستوعب رؤوسًا نووية- قابلةٌ للتحكم عن بعد، وتملك بالأساس قدرات مناورة ذاتية عالية، من لحظة إطلاقها، وحتى بلوغ الهدف الذي قد يمتدّ إلى 500 كيلومتر؛ وهي بذلك مكيّفة لتلافي الصواريخ المضادة. من هنا، تصبح حدود أعضاء "الناتو" الجدد بعد تفكك الاتحاد السوفييتي، من إستونيا وحتى شمال رومانيا، في مدى الإطلاق لجارٍ نووي جديد.
ثانيًا، تترك هذه الخطوة انطباعًا بأن بيلاروسيا، التي تملك جيشًا كبيرًا قوامه نحو 450 ألف جندي بين العاملين والاحتياطيين، أصبحت في حالة اصطفاف مطلقة مع الجارة روسيا، وأن انخراطها في القتال قد لا يكون بالضرورة دفاعًا عن حدودها السيادية؛ إذ لا يمكن لدولة تزويد دولة أخرى بتكنولوجيا نووية من دون ضمان ولائها التام.
على مقربة من "أسلحة يوم القيامة"
نظريًّا، انضمام فنلندا إلى "الناتو"، كما تستخلص دراسة "مركز الأمن الأميركي الجديد" المشار إليها آنفًا، تعني أن دولة كانت تمثّل "الطريق الثالث" بين روسيا والغرب، لتبنيها موقف عدم الانحياز، قد دخلت في عهد المعسكرات، وأن المسار البديل بين القطبين آخذ في التلاشي. على أرض الواقع، وفي المدى البعيد، لا شكّ في أن روسيا ستجد نفسها مضطرة للتكيف مع واقع جيواستراتيجي جديد في الشمال؛ الذي لن يعود "ملعبها الحرّ" بعد الآن. ستصبح حدود "الناتو" على مرمى بصر إحدى أكبر مدنها وأعرقها، وهي سان بطرسبرغ. ثمّ بمنازعتها النفوذ على الضفة الروسية في البلطيق، سيكون بوسع "الناتو"، لو أراد، قطع الطريق البحري– الوحيد- الواصل بينها وبين رأس حربتها الاستراتيجية في قلب أوروبا، كالينينغراد، التي ضمّتها من ألمانيا بعد نصر الحرب العالمية الثانية، وزوّدتها بذخيرة نووية مع بدء الحرب في أوكرانيا للتدليل على قيمتها الاستراتيجية.
أبعد من ذلك، قد تصبح التحرّكات الروسية في البلطيق والقطب الشمالي تحت ناظري "الناتو"، وقد تجد روسيا نفسها في حالة مناوشة دائمة مع الغرب هناك؛ سواء في حركة الملاحة، أو نشر الأسلحة، أو المناورات العسكرية، أو حتى التنقيب عن الموارد- في ساحة بدأت تتنبّه القوى الكبرى إلى ثرواتها الهائلة؛ وقد تضيف ريادة فنلندا عالميًّا في مجال صناعة كاسحات الجديد ثقلًا نوعيًّا للقدرات العملياتية لـ"الناتو" في هذا الإطار.
ما قد يرفع حساسية الأمر بالنسبة لروسيا أكثر من ذلك، هو أن فنلندا تتاخم ما يصفها موقع "War on the Rocks"، المتخصص في الشؤون العسكرية، "الرقعة الجغرافية الأهم لروسيا استراتيجيًّا"- وهي شبه جزيرة كولا، حيث تختزن روسيا ترسانتها من "أسلحة يوم القيامة".
تقع كولا في منطقة يُتعارف على تسميتها عسكريًّا "منع وصول، ومنع اقتراب" (A2-AD)، أي أنها مطوّقة بحلقة من الصواريخ الدفاعية قصيرة المدى وطويلة المدى، وتضم قاعدة "سيفيرمورسوك" التي تستضيف الأسطول الشمالي للجيش الروسي؛ والأهم من بين ترسانة الأسلحة التي تحتويها، ومن ضمنها النووية، أنها تشتمل على أداة الردع الأكثر مصيريّة بالنسبة للأمة الروسية: الغواصات المبرمجة لتوجيه ضربة نووية انتقامية، في حال تعرّضت البلاد لإبادة شاملة من جرّاء هجوم غير تقليدي فتاك.
دفع روسيا نحو سلاحها الأخير
في مسألة انضمام فنلندا إلى "الناتو"، كان ثمّة عامل حاسم آخر في اتخاذ القرار؛ وهو أن هلسنكي استشعرت فراغًا روسيًّا في الشمال، لا سيما مع إعادة توجيه الجيش الروسي قواته المتمركزة على الجبهة هناك جنوبًا نحو ساحة الحرب. يخلص بحث نشرته جامعة الدفاع الوطني في هلسنكي إلى أنه "بالنظر إلى الخسائر التي تكبدتها روسيا في أوكرانيا وبطء إنشاء قوات جديدة، من المحتمل ألا تكون هناك زيادة كبيرة في القوة العسكرية قرب فنلندا قبل ثلاثينيات القرن". يذهب الضابط في جامعة الدفاع الفنلندية، سيمو بيسو، في هذا الاتجاه أيضًا: "ما من زيادة في مصادرهم.. (زيادة القوات) بحاجة إلى زيادة التجنيد في المجتمع الروسي، وتحريك الجنود بحاجة لقوة دافعة اقتصادية وعسكرية".
لكن يمكن القول إن هذه القراءة تنطوي على قصر نظر أيضًا. رؤية روسيا تستنزف قدراتها التقليدية، ثم انتهاز مكاسب استراتيجية من وراء ذلك، يعني أمرًا واحدًا: دفع وريثة الاتحاد السوفييتي نحو سلاحها الحمائي الأخير. تذخير بيلاروسيا بالنووي يحمل دلالات كافية في هذا الاتجاه.

إعلان
تابعنا
ملفات