واي إن إن - مروان قبلان
لسنوات عديدة مقبلة، سنبقى، على الأرجح، منشغلين بالتعامل مع آثار زلزال السابع من أكتوبر/ تشرين الأول (2023)، والتعايش مع تداعياته على مصير المشرق العربي ومستقبله. طبعاً، هذه ليست المرّة الأولى التي يتسبّب بها تنظيم، أو حتى سلوك فردي، في قلب موازين القوى الإقليمية أو الدولية، والدفع حتى نحو حرب عالمية، فالتاريخ يزخر بالشواهد على ذلك، مثل اغتيال ولي عهد النمسا، الأرشيدوق فرديناند، في سراييفو عام 1914، والذي دفع أوروبا إلى أتون الحرب العالمية الأولى، وأحداث "11 سبتمبر" (2001) التي غيّرت وجه المنطقة العربية والعالم، لكن "طوفان الأقصى" يقدّم مثالاً نادراً على السرعة التي يمكن أن ينقلب فيها مسار التاريخ وتتغيّر اتجاهاته. كانت المؤشّرات، قبل "طوفان الأقصى"، تذهب إلى أن إيران ربحت حربها في المشرق العربي بعدما منعت سقوط نظام الأسد، وشدّدت قبضتها على العراق ولبنان، وعزّزت تحالفها مع الحوثي في اليمن، واستعادت علاقتها القوية بحركة حماس، بعد فترة جفاء تسبّب بها موقف الأخيرة المؤيد للثورة السورية. وكانت، فوق ذلك، منخرطةً في مفاوضات "واعدة" مع إدارة بايدن للبناء على اتفاقية أغسطس/ آب 2023 لتبادل السجناء والإفراج عن الأموال المحتجزة في كوريا الجنوبية. وفي أواخر 2023، كان بشّار الأسد قد بدأ بالفعل رحلة العودة إلى النظام الرسمي العربي، فيما أخذ الأوروبيون، والأميركيون كذلك، يتقبلون فكرة أنه "انتصر" ومستمر في حكم الجزء الأكبر من سورية. تركيا، أيضاً، راحت تتأقلم مع واقع أنها خسرت في سورية، وصارت تسعى إلى إصلاح علاقتها بالنظام الذي لطالما وصفته بأنه غير شرعي. كانت استراتيجية الرئيس أردوغان تقوم حينها على مبدأ الحدّ من الخسائر، عبر التعايش مع قوس نفوذ إيراني يخترق قلب المشرق العربي وصولاً إلى المتوسّط، والتعامل مع نظام يتبادل معه أردوغان أعمق مشاعر الكراهية وعدم الثقة. أما أهدافه فكانت توفير السبل لإعادة أكبر عدد ممكن من اللاجئين السوريين إلى بلادهم، واحتواء طموحات قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، وفتح الطريق البرّي نحو الخليج. عندما أطلقت حركة حماس "طوفان الأقصى" أدركت تركيا سريعاً، كما غيرها، أن الشرق الأوسط على وشك أن يتغيّر، لكن عمق التغيير وماهيته لم يكونا قد اتضحا بعد، إذ لم تُفصح إسرائيل، رغم تهديدات نتنياهو ومساعديه، عن كامل خططها بهذا الشأن. وعليه، ظلّ التركيز منصبّاً، خلال الشهور الستة الأولى من الحرب، على غزّة وقدرة إسرائيل على تحقيق أهدافها المعلنة فيها (القضاء على قدرات "حماس" العسكرية، وحكمها، واستعادة الأسرى). لكن، وابتداءً من إبريل/ نيسان 2024، أخذت مؤشّراتٌ تظهر أن إسرائيل ربما تسعى وراء أهدافٍ أكبر بكثير، عندما قصفت القنصلية الإيرانية في دمشق وقضت على قيادة الحرس الثوري في سورية ولبنان. خلال الشهور الستة التالية، راقبت تركيا باهتمام كبير احتدام الصراع الإسرائيلي - الإيراني على امتداد مساحة المشرق العربي، وحاولت الاستفادة منه. لكن أنقرة لم تفكر أبداً خارج الصندوق، بل لزمت الحذر، وظلّت تأمل أن يؤدّي إضعاف الأسد وحلفائه إلى دفعه، في نهاية المطاف، للقبول بعرض المفاوضات التركي. الرهان على تغيير حسابات الأسد استمر، تركياً، حتى بعد سقوط حلب بيد فصائل غرفة عمليات ردع العدوان، يوم 30 نوفمبر/ تشرين الثاني 2024. فقط مع سقوط حماة في الخامس من ديسمبر/ كانون الأول أدركت تركيا أن الأسد قد سقط، وأن الصراع الإيراني - الإسرائيلي قد حُسم، فسارعت لركوب "تسونامي" التغيير السوري. يُقال إن النتائج غير المقصودة للفعل البشري تكون، أحياناً، أكثر أهمية من النتائج المخطّط لها، وكما أن واشنطن لم تفكّر عندما أسقطت نظام الرئيس صدّام حسين أنها إنما ترمي العراق في حضن إيران، لم تفكر إسرائيل، عندما قرّرت كسر حلقة النار الإيرانية حولها (Ring of Fire) وإعادة سلطة خامنئي إلى ما وراء زاغروس أن الثمرة ستسقُط، كما تراءى لترامب، في سلة أردوغان. هل تنتهي القصة هنا؟ ليس، بالنسبة لنا، قبل أن تتّحد سورية ويعود قرارها بيد أهلها. لقد تحدّى السوريون العالم مرّتين: عندما ثاروا على نظام الأسد، وعندما قرّروا إسقاطه. هم الآن على أعتاب التحدّي الثالث والأخير: بناء دولة، حرّة، ذات سيادة، تمثل الإرادة الشعبية، وخالية من التدخلات الخارجية. إذا فشلنا هنا لن يفيدنا أننا نجحنا في الثورة على الأسد وإسقاطه، رغم أنف الكثيرين.
مروان قبلان
مصطفى ناجي
كمال أوزتورك
د.محمد موسى العامري
د.حسن نافعة