واي إن إن - د.حسن نافعة
كشف الرئيس الأميركي دونالد ترامب، قبل أسابيع، عن توجيهه رسالة خطية إلى المرشد الأعلى للجمهورية الإيرانية علي خامنئي، مفادها أن الولايات المتحدة لن تسمح لإيران مطلقاً بامتلاك سلاح نووي، ومن ثم ليس أمامها سوى خيار واحد، التفاوض مع الولايات المتحدة للتوصّل إلى اتفاق يضمن تحقيق هذا الهدف، وخلال مدة لا تتجاوز الشهرين، وإلا تعرّضت لهجوم عسكري كاسح. ولأن رسالته بدت أقرب ما تكون إلى إنذار منه إلى دعوة للتفاوض بحسن نية، استنتج منها بعضهم أن الولايات المتحدة تمهّد للدخول في صدام عسكري مع إيران، وأن قرار الحرب ربما يكون قد اتخذ بالفعل، وأن عودة ترامب إلى البيت الأبيض أدّت إلى تطابق الموقف الأميركي من الملف النووي الإيراني مع الموقف الإسرائيلي، خصوصاً مع موقف بنيامين نتنياهو على وجه التحديد. ولأن التطورات اللاحقة في هذا الملف أخذت منحىً مغايراً ضعفت معه احتمالات شن حرب أميركية على إيران، فقد بدأت تطرح تساؤلات كثيرة عما إذا كان نهج ترامب في التعامل مع الملفّ النووي الإيراني تغيّر، وأيضاً بشأن الانعكاسات المحتملة لهذا التغيير على العلاقات الأميركية الإسرائيلية في فترة ولاية ترامب الثانية. لم يفاجأ المراقبون كثيرا بتصريحات ترامب التي توعد فيها إيران بالويل والثبور وعظائم الأمور، خصوصاً أن مواقفه المتشدّدة تجاه إيران معروفة سلفاً، ولا تنطوي، بالتالي، على أي جديد. لذا يمكن القول إن المفاجأة الحقيقية وقعت حين قرّر ترامب بدء مفاوضات فعلية مع إيران من دون تشاور مسبق مع نتنياهو. ولأنه أعلن بنفسه عن هذا القرار إبّان وجود نتنياهو في البيت الأبيض، فقد استنتج كثيرون أن ترامب استدعى رئيس الوزراء الإسرائيلي على عجل، في زيارة للولايات المتحدة لم تكن مقرّره، ليطلعه خصّيصاً على هذا القرار الذي كان له وقع الصدمة على نتنياهو. وقد لاحظ كثيرون أن المفاوضات الجارية حالياً بين الولايات المتحدة وإيران، التي تلعب فيها عُمان دور الوسيط، تمضي بوتيرة متسارعة، وتسير في اتجاه معاكس لما كان يأمله نتنياهو. فقد بدأت هذه المفاوضات بالفعل يوم 12 إبريل/ نيسان الجاري، وعقدت منها جولتان، في مسقط وروما، وتعقد اليوم (26/4/2025) جولة ثالثة تقرّر أن تجرى، بالتوازي معها، جلسة مفاوضات مباشرة على مستوى الخبراء الفنيين، ما يقطع بأنها دخلت مرحلة جديدة ربما تكون غير قابلة للانتكاس، ومن ثم ليس من المستبعد أبداً أن تفضي إلى اتفاقٍ جديدٍ بشأن البرنامج النووي الإيراني، وهو ما يستحيل تصوّر حدوثه من دون موافقة أميركية على إلغاء العقوبات المفروضة على إيران، بالكامل ونهائياً. ظلّت إدارة ترامب تصرّ، حتى اللحظة الأخيرة، على أن تأخذ مفاوضاتها مع إيران شكل المفاوضات المباشرة، وأن يتسع جدول أعمالها ليشمل برنامج إيران التسليحي (خصوصاً ما يتصل منه بالبرنامج الصاروخي وتصنيع المسيّرات) وعلاقاتها الإقليمية (خصوصاً ما يتصل منها بالعلاقة مع فصائل المقاومة المسلحة في لبنان وفلسطين). في المقابل، أصرّت إيران على أن تكون هذه المفاوضات غير مباشرة في البداية، وألا تتحوّل إلى مفاوضات مباشرة إلا بعد ثبوت جديّة إدارة ترامب وحسن نياتها، وأن يقتصر جدول أعمالها على بند البرنامج النووي، من دون استبعاد إمكانية التشاور في القضايا الإقليمية لاحقاً، خصوصاً بعد التوصل إلى اتفاقٍ غير قابل للفسخ حول البرنامج النووي، وبعد إلغاء جميع العقوبات المفروضة عليها. ولأن كفة المطالب والشروط الإيرانية هي التي رجحت، بدليل أن المفاوضات الجارية بين الولايات المتحدة وإيران لا تزال غير مباشرة، وتُحرز تقدّماً ملحوظا في الوقت نفسه، فقد بدأ نتنياهو يشعر بالقلق، والأرجح أنه يفكّر حالياً في كيفية العمل على إفشالها بكل الوسائل المتاحة. علاقة ترامب المميزة بنتنياهو وحرصه على المصالح الإسرائيلية لا يحتاجان دليلاً، فخلال فترة ولايته الأولى، حقق ترامب لإسرائيل أكثر بكثير مما حلم به نتنياهو نفسه، فقد اعترف بالقدس الموحدة عاصمة أبدية لإسرائيل، ونقل إليها السفارة الأميركية، واعترف بالسيادة الإسرائيلية على هضبة الجولان السورية المحتلة، ومارس ضغوطاً مكثفة على دول عربية عديدة لحملها على تطبيع علاقاتها بإسرائيل من دون اشتراط قيام الدولة الفلسطينية أولاً (اتفاقات أبراهام)، وحاول تصفية القضية الفلسطينية نهائياً من خلال صفقة القرن التي لم يُتح له ما يكفي من الوقت لفرضها أمراً واقعاً. ولا شك أن حماسه وانحيازه المطلق لإسرائيل لم يفترا بعد عودته إلى البيت الأبيض. صحيحٌ أنه ضغط على نتنياهو للقبول بوقف إطلاق النار في غزة قبل أن يدخل هو إلى البيت الأبيض (اتفاق 19/1/2025)، لكنه سمح لنتنياهو بالتحلّل من هذا الاتفاق في نهاية المرحلة الأولى، والعودة إلى القتال (ما يبدو الآن جزءاً من صفقة جرت آنذاك بين الرجلين)، بل ولم يتردّد في منح نتنياهو كل ما يحتاج من وقت لمحاولة تحرير الأسرى المحتجزين لدى حركة حماس بقوة السلاح، ولو تطلب الأمر فتح "بوابات جهنم" على القطاع، غير أن ترامب بدأ يكتشف أخيراً أن الأوضاع الداخلية والخارجية التي يواجهها في فترة ولايته الثانية تختلف كثيراً عن التي كانت قائمة في فترة ولايته الأولى، ومن ثم تفرض عليه التعامل مع ملفّات كثيرة، منها الملف الإيراني، بنهج مختلف. ويبدو أن قراره الدخول في مفاوضات مع إيران، من دون تشاور مسبق مع نتناهو، يؤكّد هذا المنحى، فإيران لا تشكّل بالنسبة لنتنياهو تهديداً محتملاً فحسب، بسبب برنامج نووي قد يتحوّل، في أي لحظة، إلى برنامج عسكري، وإنما تشكّل، في الوقت نفسه، تهديداً وجودياً لإسرائيل، بسبب علاقاتها الإقليمية المتشعبة ومواقفها السياسية والأيديولوجية من المشروع الصهيوني. لذا، لا يقتصر هدف نتنياهو الأساسي على الرغبة في الحصول على ضماناتٍ تتعلق بسلميّة برنامج إيران النووي فحسب، وإنما يعمل على تفكيك هذا البرنامج من أساسه، وإجبار إيران على الانكفاء على نفسها وقطع علاقاتها بالقوى المناوئة لإسرائيل في المنطقة، وهي أهداف يراها نتنياهو غير قابلة للتحقق إلا بتغيير النظام الإيراني نفسه، ما يفسّر محاولاته المتكرّرة لإقناع ترامب بأن إيران أصبحت في أضعف حالاتها، خصوصاً عقب الضربات الموجعة التي وجهت لحلفائها في المنطقة وسقوط نظام بشّار الأسد في سورية، وأن الفرصة أصبحت متاحة لتوجيه ضربة عسكرية مشتركة تؤدّي ليس إلى تدمير منشآتها النووية فحسب، وإنما إلى التخلص أيضاً من نظامها السياسي مرّة واحدة وإلى الأبد، وإحلاله بنظام موال للغرب، غير أن موافقة ترامب على الدخول في مفاوضات غير مباشرة مع إيران تقتصر، في المرحلة الحالية، على برنامجها النووي، تفيد بأنه بدأ يتعامل مع هذا الملفّ استناداً إلى رؤية وحسابات مختلفة عن رؤية نتنياهو وحساباته، ما يوحي بأن الفجوة بين الرجلين بدأت تظهر، بل ومرشّحة للاتساع بمرور الوقت. لا يعني هذا التطور أبداً أن ترامب غيّر موقفه الداعم والمنحاز لإسرائيل بشكل مطلق، وإنما يعني فقط أنه ربما يكون قد بدأ يغيّر من نظرته إلى سياسي منحه كل ما يحتاج من وقت لتحقيق أهدافهما المشتركة في الحرب على غزّة، خصوصاً ما يتعلق منها بتدمير "حماس" وتحرير الأسرى، غير أنه فشل في تحقيق أيٍّ منها. بل بدأت المؤسّسة الأمنية الإسرائيلية نفسها تدرك عدم جدوى الاستمرار في الحرب، وبدأت أسر الأسرى تدرك أن نتنياهو ليس عاجزاً فحسب عن تحرير الأسرى، وإنما أيضاً يتلاعب بمصيرهم في الوقت نفسه، ولحسابات شخصية لا علاقة لها بأمن إسرائيل، ما يفسّر تجاوز هذه الأسر نتنياهو وتوجيه رسائلها إلى ترامب مباشرة لمناشدته العمل على تحرير ذويهم، ولو كان الثمن وقف الحرب والانسحاب الكامل من قطاع غزّة. على صعيد آخر، يدرك ترامب أن الحرب على إيران لن تكون نزهة ولا خاطفة، ومن ثم قد تكون تكلفتها باهظة، ليس بالنسبة للولايات المتحدة فحسب، وإنما أيضاً لحلفائها في المنطقة، بمن فيهم إسرائيل نفسها، ما يعني أن بلاده قد تخرُج منها أكثر ضعفاً وأقلّ قدرة على مواجهة القوى التي تطمح في منافستها على قيادة النظام الدولي، خصوصاً الصين. ولأنه وصل إلى البيت الأبيض على جناح شعار "أميركا أولاً" مدّعياً أن مهمته الأولى تكمن في العمل على "عودة أميركا عظيمة"، فسوف يجد نفسه في موقف يفرض عليه، آجلاً أو عاجلاً، أن يختار بين شعاري "أميركا أولاً" و"إسرائيل أولاً". فالولايات المتحدة لم تعد مثل ما كانت منذ سنوات، ففيها شريحة واسعة من النخب، تتسع ويتعاظم نفوذها باستمرار، ترى أن السياسة الخارجية الأميركية تميل منذ سنوات إلى ترجيح كفة المصالح الإسرائيلية على حساب المصالح الأميركية نفسها، وأن جميع الإدارات التي تعاقبت على حكم الولايات المتحدة تسير على المنوال نفسه منذ الحرب العالمية الثانية. لذا يمكن القول إن ترامب في طريقه لمواجهة اختبار صعب، وإن مصداقيته أصبحت على المحكّ، وإن عليه أن يثبت بالفعل، وليس بالقول، أنه قادر على ترجيح كفّة المصالح الأميركية، حتى في حال تصادمها مع المصالح الإسرائيلية.
*د.حسن نافعة \ عن العربي الجديد
د.حسن نافعة
مصطفى ناجي
عريب الزنتاوي