كِتَابِي إلَيكَ

08-01-2021 02:48:51    مشاهدات361


واي إن إن - سها حسين


أقِفُ الآنَ يَا رعَاك الله أمَامَ حُفرته، وقدْ حضَرتُ بأدْمُعِي، ونَسِيتُ مِن بَعْدها صَبري وتَجلُّدي، فلَهُوَ خَيرُ مَنِ ارتَاحَتْ لَه روحِي، وصَفتْ له سَرائِر نفْسِي، فَاعلَمْ أنَّ البَذل فِي حَقِّه لا يُذكر؛ مُقابِل عَطايَا بَذْلِه، وإنِّي أكْتبُ إليكَ يَا حَمَاكَ الله مُبِثًّا إليْكَ بَعضَ مَا اخْتَلجَنِي مِن دَاءِ الهُمُومِ، ومَا بِي مِن فَقْدٍ ألَمَّ بِي وَأصَابَنِي كَالمَجْنُون، ومَا أصَابَنِي مِن ذَلك إلَّا والْمُصَابُ جَلَلٌ يَقْرَعُ بَعْده نَوائِب الدُّهُور ويَكشِفُ كُل مسْتُور، فَالرَّاحِل أضَحَى إلَى ضَريحِهِ قَرِير العَينِ وفِي نفْسِه سَكِينَة وحُبُور، وَمَا سِوَاه فِي اضْطِرابٍ وحُزْنٍ غَيرِ مَستُور.


وَكُنتُ قَد شَهِدتُ آخِرَ أيَّامِه يَجُول بِأنْظَارِه؛ كَأنَّه يُوْدِعُ ابتسَامَاتٍ عَلى الحُضُورِ، وَإنْ كُنتُ قَدْ غَفِلتُ عَن ابتِسَامتِهِ الَّتِي أوْدَعَها لِي؛ ذَاكَ لِتَعْلَمَ أنَّ الشُّغُلَ ومَا يَشْغُلنَا يَأْخذُ بِنا بَعيدًا، حتَّى إِذَا مَا وقَعَ المُصَابُ، ووُضِع كِتَابه، وَقُضِي فِي شَأنِ أمْرِه، وَقَبَضَ مَا أوْدَعَه اللهُ فِي جَنَباتِ جَسَدِه، نُكِسَ الوَاحِد منَّا وغُلِبَ عَلَى أمْرِهِ، فَلا هُو بالمُسَلِّمِ لذَاكَ القَضَاء ولَا هُو بالنَّاقِم عَلَيه، ولا يَخْفَى عَنْك مَآل أَهْلِه وَعِظَم فَقْدِهِم فِيهِ.


فَهَذهِ زَوجَتُه قَدَّتْ قَمِيص حُزْنِها، وَابْيَضَّتْ عَيْناهَا؛ فَغَدتْ كَجُثَّةٍ بَالِيةٍ لَا حِراكَ ولَا حَياةَ بهَا، وكأَنَّها تسَابقَتْ وَرَاء نعْشِه حتَّى إِذا مَا طَرحُوه فِي حُفرَتِه أقَامَتْ قَبْلَه لَا تُريد هَجرًا وَلا بُعْدًا، وَحَال الأَوْلَاد مِن بَعْده وقَد عَلِمْتَ حُنُوِّه ورَأفَة حُبِّه علَيهِم؛ صَرَعى مَا بَينَ مُدرِكٍ غَابَ عَنْ وَعْي إدراكِهِ لِبحْر التِّيهِ والأَحْزانِ، وَما بَينَ صَغيرٍ يَلهُو وَمَا بِه مِن وَعْي لِمَا حَلَّ حَولهُ، وَكَانُوا قَد أسْكَتُوه بمُضْغةِ خُبزٍ هَشَّةٍ فِي فَمِه؛ شَغَلُوه بِهَا وَعَنْه شُغِلُوا.


وَلو رأيتَ أُمّه العَجُوز، كَيفَ نَهشَ الحُزن جَسدَهَا، وتَآكَل حتَّى قُضِى عَلى مَا تَبقَّى مِنهَا، وَلو رَأيتَ أبَاهُ كَيفَ ترْتعِد عِظَامه، وَتَصْطدِم فِي بعْضِها يَنْخر بِها الوَهْن شَيئًا فَشَيئًا؛ حتَّى تقَلَّص وُجُوده.


وَهَذا وَلَا يَخْفَى عَليكَ حَال الْأَولادِ مِن بعْده، قدْ أصَابهُم كأْس اليُتْم يَتَجرَّعُونه بِبَأسٍ وُذُلٍّ، فَأنتَ تَعلَم يَا رَعاكَ الله مَا كَان يَعْنِي بِوجُوده لهُم، وَما بِه مِن رَحَابَة صَدْرٍ وُوُدٍ فِي حَقِّهم، وَقُوةِ بأسٍ وكِفَاحٍ فِي تَلبِيةِ جِماحِ رَغَباتِهِم، ذَاك لتَعْلم أنَّه بالَّذِي يُذُكر كُلّ وَقْتٍ، وَمَا قَادَنِي فِي ذِكره لَكَ وأَنْت قَدْ علِمْتَ بِحَالي؛ إلَّا حُسْن خَاتِمَته، وَصَفَاء سَرِيرَته، وَجَميلِ مُنْقَلَبه، وَرِوائِع ذِكْره، وَإنِّي مَع كُلّ ذَلكَ، أخْبُو نفْسِي مِن وقْتٍ لِحِين، أسْتَوْدِع دُمُوعِي فِي طريقِ بعْدِه؛ لعَلِّي أُصِيبُ وَأَهْنَؤُ بِلَذة رُؤْيتِه فِي مَنامِي علَى الوَجْه الحَسَن مَا أَذْكُره مِنْه؛ فَتُسَاق الْأَروَاح فِي ظِلِّ هنَاءَة اللُّقَيا بالسُّرُور والحُبُورِ.


وَمَا قَصَرتُ فِي قَولِي لِتَعْلم يَا رَعاكَ الله مَا أردْتُ شُغْلك مَعِي، وَلكِن هِي رَهْفةٌ وَهزَّةٌ فِي القَولِ والبَوحِ إلَيكَ، وِإنْ كَان كتَابِي وَعَلى قُصُورٍ مِنِّي يَسْتَبِيحك العُذْر، وَأنْتَ تَعْلم يَا حَفِظَك الله مَا مَدعَاة قُولِي لَك؛ فَلأَنْت أعَلم بِحَالِي مِنْ بَعدِ مَا ذُقْنَاهُ مِن حَرَارة ألَمِ الفَقْدِ.


فَهَذا كِتابِي إليكَ فِي حَقِّ فَقِيده، قَد آزَرتْه الحُرُوف، وَنَصَرَته الجُمَل، وَاسْتَبَاحَت ذِكْره المُقَل، ومَا بِي حَاجَة إلَى شَيءٍ؛ كمِثْلِ حَاجَتِي لِكتَابِك فِي الدُّعَاء إليْهِ، وتسْطِير الرَّحْمَة عَليْه، فَلا تغْفَلْ عَن رَدِّ كِتابِي يَا رَعاكَ الله، فَما بِي مِن سَلوةٍ كسَلْوتِي في انْتِظَارِ ذكْرِه فِي كَنَفِ كِتَابِكُم... وَالسَّلام عَليكُم لِحِين وَقْتِها وَكُلِّ حِينٍ.
إعلان
تابعنا
ملفات