واي إن إن - طارق محمود
لا تستطيع قوة على وجه الأرض، مهما بلغت، أن تخوض حرباً إلى الأبد، وليست حرب إسرائيل ضد غزّة استثناءً. انتظرت إسرائيل 15 شهراً من أجل التوصل إلى اتفاق كان بالإمكان تحقيق أفضل منه قبل شهور عديدة، مات خلالها عدد من أسراها بسلاحها. أما حركة حماس والفصائل الفلسطينية في غزّة فلم يكن بمقدورهم إنجاز هذا الاتفاق بضماناتٍ أفضل لوقف الحرب، ووقف مسلسل القتل اليومي للناس. يضع اتفاق غزّة المعلن أول من أمس الأربعاء الحسابات العامة لطرفي الحرب في ميزان مختلّ، فلا المقاومة قادرة على اعتباره ربحاً صافياً مع كل الخسائر البشرية والمادية في غزّة، ولا إسرائيل قادرة على تجاوز أنه خسارة ناجزة، يخرُج بها أسرى الاحتلال بمقابل آلاف الأسرى الفلسطينيين في صفقة تبادل، كانت كل هذه الحرب الطاحنة محاولة لتقديم بديلٍ عنها. مع ذلك، وقف الحرب ليس جزءاً من الاتفاق، ولكن الضمانات الأميركية ببدء محادثات وقفها هي الأكثر جدّية. والضمانات بحد ذاتها ليست جديدة، لكن الضامن هو الجديد. فإدارة بايدن كانت أضعف من أن يوثق بالتزاماتها، وليست إدارة ترامب أكثر موثوقية، لكنها إدارة تطغى فيها شخصانية ترامب وسعيه الحثيث إلى إنتاج مظاهر أكثر قوة من سلفه، قد تجعل من ضماناته أكثر فاعلية. لقد كتب المحلل الإسرائيلي، بن كسبيت، معلقاً على الاتفاق بالقول: "كان من الخطأ المطالبة بانتخابات مبكرة لإنهاء الحرب وإعادة المخطوفين، بدلاً من المطالبة بانتخابات مبكّرة في إسرائيل، كان على المتظاهرين أن يطالبوا بإجراء انتخابات مبكّرة في أميركا". قد يُقال إن نتنياهو أهدر فرصاً سابقة، كان من الممكن معها تحصيل اتفاق مماثل بأسرى إسرائيليين أحياء أكثر، وهذا صحيح، لكن نتنياهو لم يضع حياة الأسرى في أي مرحلة أولوية لحكومته، ولا في هذا الاتفاق نفسه، فهو اتفاق مدفوعٌ بمتغيرات أميركية، وربما بمخطّطات نتنياهو تجاه إيران، التي لا يمكن قيامها بدون انخراط أميركي مباششر فيها. كان التغيّر الحاصل في ساكن البيت الأبيض مفتاحاً مهمّاً لهذا الاتفاق، فبالرغم من أن دعم إسرائيل وتغطية انتهاكاتها من ثوابت ترامب كما بايدن، شأن كل الإدارات الأميركية، يختلف ترامب في طبيعته الشخصية التي لا تسمح لنتنياهو بالتلاعب به وإهانته بالطريقة المذلّة التي طبقها على بايدن. يدرك نتنياهو خصال ترامب، وأهمية مداراة الرجل وعدم استفزاز كبريائه. فرغم أن ترامب كان الرئيس الذي قدّم لإسرائيل المشروع السياسي الأكثر تطرّفاً ضد مصالح العرب والفلسطينيين، بما سُمّيت "صفقة القرن"، خلال ولايته السابقة، إلا أنه شخصية مسكونة بإنجازاتها ووعودها وحضورها الأناني بما هو اعتبار لا يسبقه شيء آخر. هنا يبدو أن نتنياهو يراعي عدّة جوانب في المتغير الأميركي الجديد. أولاً، يحرص على عدم استفزاز الأنا في شخصية ترامب المسكونة بقدرتها على إنجاز التحولات الحادّة، ومنها وعده بوقف الحروب. إثارة خلاف مع ترامب أمر لا يمثل قلقاً على مصالح إسرائيل الراسخة في عقل المؤسّسة الأميركية، بغض النظر عمن يديرها، لكنها خطيرة في شخصنة الخلاف بين ترامب ونتنياهو، في وقتٍ يسعى فيه الأخير إلى تأمين حضور أعمق في المشهد السياسي الإسرائيلي، ليتجنّب تداعيات كثيرة بشأن مستقبله السياسي، خاصة مع وجوده مطلوباً للعدالة الدولية. يدرك نتنياهو أن معركة شخصية مع ترامب قد ينجم عنها تشكل إرادات في المؤسّستين الأميركية والإسرائيلية، وقد تشكل أكبر خطرٍ على مستقبله السياسي. ثانياً، يأمل نتنياهو أن يكون ترامب، وهو الرئيس الأكثر تطرّفًا ضد إيران ومشروعها النووي، أكثر استعداداً للعمل في مواجهة هذا المشروع. لا يرغب نتنياهو خدش العلاقة التي قد تخفض حماسة ترامب تجاه الملف الإيراني، فآمال نتنياهو كبيرة في جرّ الإدارة الأميركية الجديدة إلى مواجهة حاسمة في شأن التهديد النووي الإيراني. وقد يكون اتفاق غزّة نفسه محاولة تسكين الملفات الساخنة من أجل التفرغ للملف الأهم بإنهاء هذا التهديد. كان تهديد ترامب بالجحيم في حال لم يجر إطلاق الرهائن فعليّاً موجهًا لإسرائيل، رغم ظاهره الموجّه إلى حركة حماس التي تضرّرت بالقدر الكافي الذي لم يعد لتهديد ترامب قيمة في تخويفها بضرر أكبر مما حصل. ويدرك الإسرائيليون، أكثر من غيرهم، أن إلحاق ضرر أكبر بالحركة لم يعد ممكناً أكثر مما فعل توحّشها وجبروتها العسكريان. من هنا تحرّكت ملفات التفاوض المستعصية، وعاد الإسرائيليون عن خطوط حمراء رسموها في خطاب الإبادة المستمرّة منذ حوالي 15 شهراً. يتضمن الاتفاق نصوصاً حول الانسحاب من محاور نتساريم وصلاح الدين (فيلاديلفي)، وعودة سكان غزّة إلى الشمال من دون قيود إلا على السلاح، وإطلاق سراح مئات الأسرى الفلسطينيين من أصحاب المؤبدات. في كل النقاط السابقة، كان هناك تراجع إسرائيلي، وكذلك حصل تراجع في مواقف "حماس" بطبيعة الحال، لكن الحركة أبقت على المبادئ الأساسية لمطالبها (وقف الحرب، الانسحاب، عودة النازحين إلى الشمال، إطلاق سراح أسرى من ذوي المؤبدات). وقف الحرب والانسحاب الكامل غير متحقّق في هذه المرحلة. وفي المقابل، لم يتحقق إطلاق سراح كامل الأسرى الإسرائيليين، وفصل هذه النقطة سيكون للمرحلة الثانية. يؤكّد هذا الاتفاق حقيقة تراجعَ عنها محللون في سياق قراءة ضعف إدارة بايدن تجاه إسرائيل، وهي أن الولايات المتحدة كانت ولا تزال قادرة على وقف الحرب حين تتوفّر الإرادة لذلك. الفرق بين إدارتي بايدن وترامب أن الأولى مارست رغباتها في وقف الحرب من دون إرادة، بينما وفر ترامب إرادة سياسية للاتفاق قبل توليه مقاليد السلطة، وهذه الأخيرة ربما أبرز معالم ضعف إدارة بايدن في هذا الملف، إذ إنها إدارة احتاجت ظلال خصمها من أجل إنجاز اتفاق فشلت في تحقيقه قبل ذلك. بعد مرور 15 شهراً على حرب إبادة متوحّشة حظيت بدعم غربي، عسكري وسياسي، كان الأوقح في عالم حقوق الإنسان ما بعد الحرب العالمية الثانية، فشلت إسرائيل في تحرير أسراها بالقوة العسكرية، رغم وجودهم في بقعة جغرافية صغيرة خضعت لأعظم تقنيات المراقبة والكشف في العالم، والمدعومة بتقنيات الذكاء الصناعي المخيف، مترافقة بآلة قتل جماعي للسكان والعمران. يقول هذا الاتفاق إن إسرائيل خسرت الحرب، ولم يربحها الفلسطينيون.
*طارق محمود \ كاتب فلسطيني \ عن العربي الجديد
طارق محمود
مصطفى ناجي
محمد ابو رمان
علي انوزلا
المهدي مبروك