واي إن إن - متابعات
ممر مائي يمثل البوابة الجنوبية للبحر الأحمر، ويصله بخليج عدن وبحر العرب والمحيط الهندي، ويشكل حلقة مهمة في الطريق التجاري البحري الأقصر والأقل تكلفة، الذي يربط شرق آسيا بأوروبا. ويتمتع المضيق بأهمية إستراتيجية واقتصادية وعسكرية، جعلته ساحة للصراعات الإقليمية والدولية، وقد عملت القوى المتنافسة على تعزيز نفوذها فيه بإنشاء قواعد عسكرية بالجزر والدول المشاطئة، واستغلال التحكم بالمضيق وإغلاقه في وجه الخصوم عند الحاجة، فأصبح ورقة رابحة في الحروب والنزاعات. الموقع والجغرافيا يقع مضيق "باب المندب" في أقصى جنوب البحر الأحمر، بين الزاوية الجنوبية الغربية لشبه الجزيرة العربية وشرق أفريقيا، ويحده من الجانب الآسيوي اليمن، ومن الجانب الأفريقي جيبوتي. وهو عبارة عن ممر مائي طبيعي يصل بين البحر الأحمر وخليج عدن المطل على المحيط الهندي. ويبلغ عرضه نحو 30 كيلومترا، من رأس منهالي على الساحل الآسيوي، إلى رأس سيّان على الساحل الأفريقي. وتقع جزيرة بريم اليمنية في مدخل المضيق الجنوبي، وتقسم المضيق إلى قناتين: قناة "إسكندر": وتعتبر الأصغر بين القناتين، وتقع إلى جهة الشرق بمحاذاة البر اليمني، ويبلغ عرضها 3 كيلومترات وأقصى عمق لها 30 مترا. قناة "دقة المايون": وهي القناة الأكبر، وتقع غربا متاخمة للسواحل الأفريقية، ويبلغ عرضها نحو 25 كيلومترا وعمقها 310 أمتار. وترجع نشأة باب المندب -بحسب المصادر الجيولوجية- إلى الحركة التكتونية التباعدية التي حدثت بالحقبة الجيولوجية الثالثة التي نجم عنها انفصال شبه الجزيرة العربية عن قارة أفريقيا، وتكوين البحر الأحمر، بما فيه باب المندب. التسمية تعود أصول تسمية "باب المندب" إلى اللفظ العربي "الندب" ويعني البكاء على الموتى، فالمراد به "باب الدموع". وقد ذكروا أسبابا لهذه التسمية، منها: الدموع التي سكبتها اليمنيات على البحارة الذين فقدوا أثناء عبورهم المضيق. كما قيل إن التسمية جاءت لندب الأفريقيات أولادهن وبناتهن الذين كانوا يُؤخذون عبيدا وسبايا إلى الجزيرة العربية عبر المضيق، إبّان غزوات القبائل العربية لأفريقيا. وتذكر إحدى الأساطير أن سبب التسمية يعود إلى ندب الموتى الذين غرقوا في البحر، بسبب هزة أرضية فصلت بين قارتي آسيا وأفريقيا. وقد ذكرت بعض المصادر أن اسم "باب المندب" مستمد من الفعل "ندب" أي: جاز وعبر، لأن المضيق يمثل معبرا بين البحر الأحمر وخليج عدن. الأهمية يعد مضيق "باب المندب" من أهم المعابر المائية في العالم، وقد برزت أهميته بوضوح مع افتتاح قناة السويس عام 1869، حيث أصبح يشكل إحدى الحلقات المهمة للطريق البحري الأقصر، الذي يصل بين شرق آسيا وأوروبا، والذي يمتد من المحيط الهندي مرورا ببحر العرب وخليج عدن، وعبر باب المندب إلى البحر الأحمر ثم البحر الأبيض المتوسط عبر قناة السويس. وتنامت أهمية المضيق الاقتصادية مع مرور الزمن، حيث شكل ممرا بحريا للتجارة الدولية، بسبب ما يوفره من الجهد والوقت والتكلفة المادية، وأصبح يتمتع بحركة ملاحة كثيفة في كلا الاتجاهين، إذ تمر به معظم أنشطة التبادل التجاري بين آسيا وأوروبا، ونحو 10% من حركة الملاحة العالمية. واكتسب المضيق أهمية اقتصادية كبيرة مع ثلاثينيات القرن العشرين، وظهور النفط في الخليج العربي، ونظرا لما تمتاز به قناتاه من الاتساع والعمق، وقدرته على استيعاب السفن الضخمة وناقلات النفط بسهولة في كلا الاتجاهين، أصبح من أهم المعابر المائية لموارد الطاقة في العالم، وشكل أحد أضلاع مثلث المعابر الإستراتيجي للنقل الطاقوي (هرمز والمندب والسويس). ويحتل مضيق "باب المندب" الرتبة الثالثة عالميا من حيث عبور موارد الطاقة، بعد مضيقي ملقا وهرمز، حيث تمر منه معظم صادرات النفط والغاز الطبيعي من الخليج العربي، التي تعبر قناة السويس أو خط أنابيب "سوميد". ويقدر عدد السفن التي تمر عبره بأكثر من 21 ألفا سنويا، بما يعادل 57 سفينة يوميا. ووفق معطيات وكالة إدارة معلومات الطاقة الأميركية لعام 2018، يمر عبر "باب المندب" نحو 6.2 ملايين برميل يوميا من النفط الخام والمكثفات والمنتجات البترولية المكررة باتجاه أوروبا والولايات المتحدة، وإلى الأسواق الآسيوية مثل سنغافورة والصين والهند، وذلك بما يعادل حوالي 9% من إجمالي النفط المنقول بحرا في العالم، ويشمل النفط الخام والمنتجات البترولية المكررة. ويؤدي إغلاق "باب المندب" في وجه الملاحة، بسبب بعض الأزمات، إلى ضرورة الالتفاف حول جنوب أفريقيا، عبر طريق رأس الرجاء الصالح، الأمر الذي من شأنه أن يزيد وقت العبور بمسافة إضافية قدرها 6 آلاف ميل بحري، وتكاليف إضافية كبيرة للشحن. ويتمتع هذا المضيق بأهمية عسكرية وأمنية، تتطلبها الحاجة للحفاظ على المصالح الاقتصادية وتأمين خطوط التجارة الدولية، والبقاء قرب مراكز تصدير الموارد الطاقوية، وترسيخ النفوذ السياسي بالمنطقة، الأمر الذي استدعى حرص الدول العظمى على تثبيت قواعد عسكرية لها في الجزر الواقعة داخل المضيق وفي محيطه، وعلى شواطئ الدول المطلة عليه. وتكمن أهمية المضيق العسكرية في كونه يوفر ميزة الدفاع عن البوابة الجنوبية للبحر الأحمر، من نقاط حصينة تقع إما على الشواطئ المرتفعة المحمية طبيعيا، أو فوق جزيرة بريم التي تعترضه، ومن ثم إمكانية إقامة نقاط الرصد والمراقبة ومحطات الرادار أو إقامة القواعد العسكرية. التاريخ لعب "باب المندب" منذ القدم دورا فاعلا في ربط شرق العالم بغربه، نظرا لموقعه الإستراتيجي المميز الذي لفت أنظار الدول الكبرى آنذاك، فسارعت للسيطرة عليه تجاريا وعسكريا منذ عصور الدولة المصرية القديمة، ثم الإغريق والبطالمة وصولا إلى الرومان، الذين بدؤوا باستخدام طريق البحر الأحمر إلى آسيا وتوسيع حجم تجارتهم بعد غزوهم لمصر. وفي القرن الـ15 الميلادي، مع وصول الأسطول البرتغالي إلى المحيط الهندي عبر طريق رأس الرجاء الصالح، تراجعت أهمية مضيق باب المندب، لا سيما فترات قوة الدولة العثمانية التي أحكمت سيطرتها على المضيق، ومنعت السفن الأوروبية من الملاحة بالبحر الأحمر. ومع ضعف الدولة العثمانية أواخر عهدها، بدأ التنافس الفرنسي البريطاني على المنطقة، وتسلل نفوذهما إلى البحر الأحمر وصولا إلى "باب المندب" وأصبحت منطقة المضيق محل تنافس القوى الاستعمارية الأوروبية. وعلى إثر حملة نابليون بونابرت على مصر عام 1798، وضعت بريطانيا حامية عسكرية على جزيرة ميون لعرقلة وصول الفرنسيين إلى المحيط الهندي، وبحلول عام 1839 استقر البريطانيون بجزيرة كمران، وثبتوا قوات عسكرية تابعة لهم في جزيرة ميون على البوابة الجنوبية للمضيق. وعام 1869 استولى الإيطاليون على ميناء "عصب" الإثيوبي، ووطدوا وجودهم شرق وجنوب الصومال، وسيطرت بريطانيا عام 1883 على ميناءي "زيلع" و"بربرة" شمال الصومال، وكان الفرنسيون قد بدؤوا بفرض سيطرتهم على شواطئ جيبوتي منذ عام 1862. واستمر النفوذ الأوروبي بالمضيق حتى حلول عام 1960، حين استقلت الصومال رسميا مع خروج القوات البريطانية والإيطالية منها، وعام 1977 خرجت فرنسا من جيبوتي، وأبقت قاعدة عسكرية لها كانت قد أنشأتها عام 1969. ومع نهاية الاستعمار، أصبح "باب المندب" خاضعا للدول المشاطئة، وتتحكم به كل من اليمن وجيبوتي وإريتريا. قواعد عسكرية أجنبية في الوقت الذي انسحبت فيه أوروبا من المنطقة، بدأ قطبا الحرب الباردة بالظهور في المنطقة، ففي أعقاب انسحاب بريطانيا من عدن، وإعلان قيام جمهورية اليمن الجنوبي عام 1967، تمكن الأسطول السوفياتي من بسط نفوذه عند مدخل المضيق، من خلال استقراره في ميناء عدن وجزيرة سقطرى. وكانت أميركا موجودة بدورها في أرخبيل دهلك منذ الحرب العالمية الثانية. وظهرت الأهمية العسكرية والأمنية لـ"باب المندب" عام 1973 أثناء الصراع العربي الإسرائيلي، حين اتفقت مصر واليمن على إغلاق المضيق أمام إسرائيل، وتنامت أهميته الأمنية عقب هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001، إذ قامت أميركا بالعمل على تأمين الملاحة بالمضيق في مواجهة تنظيم القاعدة والقراصنة بالمنطقة، عن طريق تأسيس قاعدة عسكرية لها في جيبوتي عام 2002. وفي الفترة بين عامي 2008 و2017 أنشأت 4 دول أخرى قواعد عسكرية لها بجيبوتي، وهي: إسبانيا واليابان وإيطاليا والصين. وأدت عمليات القرصنة التي تصاعدت منذ عام 2008 في "باب المندب" وخليج عدن إلى تدويل للمنطقة، من خلال الحضور المكثف للقوى العسكرية الدولية التي تهدف لمكافحة الظاهرة. وأنشأت تركيا أكبر قاعدة عسكرية لها في العالم بالصومال عام 2017، وأسست الإمارات قاعدة عسكرية في إريتريا وأخرى في بربرة بالصومال. ووقعت السعودية على اتفاق مع جيبوتي لإنشاء قاعدة لها هناك. وتمكنت إسرائيل من بناء قواعد عسكرية على عدد من الجزر التابعة لإريتريا. وهكذا أصبحت منطقة المضيق وما حولها تعج بالقواعد العسكرية للقوى المتنافسة على النفوذ فيه. سيطرة حوثية مع اندلاع الحرب في اليمن عام 2014، وما تبعها من سيطرة الحوثيين على "باب المندب" تضاعف مستوى التهديد الأمني في البحر الأحمر والمضيق، خصوصا مع دعم إيران لحلفائها الحوثيين بالسلاح والتكنولوجيا والمعدات العسكرية المتطورة، مما مكنهم من تعطيل حرية الملاحة أحيانا حول المضيق. وانخرطت دول من الجوار الخليجي في الحرب الدائرة باليمن في مارس/آذار 2015، بهدف التصدي لتوسع النفوذ الإيراني بالمنطقة، وتقاطع ذلك مع مصالح مجموعة من الدول التي تسعى للهدف نفسه، مثل أميركا وإسرائيل. واتخذ الحوثيون جزيرة ميون -التي تتحكم بالمدخل الجنوبي للمضيق- موقعا عسكريا لهم، ولكن التحالف العربي بقيادة السعودية تمكن في أكتوبر/تشرين الأول 2015 من السيطرة على "باب المندب" وقامت الإمارات لاحقا ببناء قاعدة عسكرية لها في ميون. ومنذ تدخل التحالف العربي باليمن، أخذت هجمات الحوثيين تطال سفنا بالمضيق أو على مقربة منه، واحتجزوا العديد من السفن التي تعود ملكيتها لدول التحالف، وأطلقوا صواريخ ألحقت أضرارا جسيمة بسفينة "سويفت" الإماراتية. وعام 2016 أطلق الحوثيون قذائف صاروخية على البحرية الأميركية بالقرب من "باب المندب" وزرعوا ألغاما بحرية بشكل عشوائي في المياه الإقليمية. وعام 2018، أعلن وزير النفط السعودي خالد الفالح تعليقا مؤقتا لجميع صادرات النفط عبر مضيق باب المندب استمر لأسبوعين، وذلك عقب هجوم شنّه الحوثيون على سفينتين محملتين بالنفط الخام. وعلى إثر تعرض الحوثيين لـ 3 سفن إحداها سعودية جنوب البحر الأحمر في نوفمبر/تشرين الثاني 2019، أعلن التحالف أن سلوك الحوثيين يمثل اعتداء على أمن "باب المندب" وتهديدا حقيقيا لحرية الملاحة الدولية والتجارة العالمية فيه. وفي محاولة لتأمين خط التجارة الدولي بالبحر الأحمر، شكلت أميركا وبريطانيا مع مجموعة من الدول الحليفة في أبريل/نيسان 2022 فريقا أمنيا تابعا للقوات البحرية الدولية المشتركة، يحمل اسم "قوة المهام المشتركة 153 الدولية" ويضم دولا عربية وأجنبية، ويقوم بمهام أمنية يتركز نطاقها بالبحر الأحمر وباب المندب وخليج عدن. إغلاق في وجه إسرائيل عقب اندلاع معركة "طوفان الأقصى" في أكتوبر/تشرين الثاني 2023 بين فصائل المقاومة بفلسطين والاحتلال الإسرائيلي، انخرط الحوثيون في القتال الدائر عبر إطلاق صواريخ وطائرات مسيرة باتجاه إسرائيل، وأعلن الحوثيون في 16 نوفمبر/تشرين الثاني أن "باب المندب" والمياه المحيطة به سيتم إغلاقها في وجه السفن الإسرائيلية وأي سفن حربية تحميها بشكل مباشر أو غير مباشر. وفي غضون أيام احتجز الحوثيون حاملة المركبات "غالاكسي ليدر" المملوكة لإسرائيل وطاقمها، وأواخر نوفمبر/تشرين الثاني أسقطت المدمرة الأميركية "يو إس إس كارني" طائرة للحوثيين بدون طيار اقتربت منها في "باب المندب". وفي 3 ديسمبر/كانون الأول 2023 هاجم الحوثيون سفينتين إسرائيليتين جنوب البحر الأحمر هما "يونيتي إكسبلورر" و"نمبر 9″ بمسيّرة مسلحة وصاروخ بحري، واستهدفوا كذلك سفنا إسرائيلية بالمحيط الهندي وخليج عدن. ومع استمرار العدوان الإسرائيلي، أعلنت جماعة الحوثي، في 9 ديسمبر/كانون الأول، منع مرور جميع السفن من جميع الجنسيات، المتوجهة من وإلى الموانئ الإسرائيلية، وهاجم الحوثيون العديد من السفن الإسرائيلية والأجنبية أثناء عبورها بالمنطقة بالصواريخ والطائرات المسيرة. وعلى إثر ذلك، بدأت شركات شحن دولية منذ منتصف ديسمبر/كانون الأول 2023 بتوقيف مؤقت لمرور سفنها عبر "باب المندب" والبحر الأحمر، من ضمنها شركات تعد الأكبر بمجال الشحن الدولي "ميرسك" الدانماركية، ومجموعة الشحن الفرنسية "سي إم إيه، سي جي إم" و"إم إس سي" الإيطالية السويسرية، وشركة النفط والغاز العملاقة "بريتش بتروليوم". ونجم عن ذلك ارتفاع سعر الغاز الطبيعي الرئيسي في أوروبا بنسبة وصلت إلى 7.9%، وسط مخاوف من انقطاع تدفق الطاقة، كما غيرت مجموعة من السفن مسار رحلاتها لتفادي المرور عن طريق البحر الأحمر عبر الالتفاف حول جنوب أفريقيا مرورا برأس الرجاء الصالح. وسببت التهديدات ضربة اقتصادية لإسرائيل، إذ أصيب ميناء إيلات على البححر الأحمر بالشلل، وزاد وقت الإبحار في المسار البديل إلى إسرائيل بين 17 و22 يوما على أقل تقدير، وهو ما يرفع من تكلفة الشحن وأسعار البضائع، ويؤدي إلى عرقلة الصفقات وعمليات التبادل التجاري. ودعما لحرية الملاحة بالبحر الأحمر، والوقوف في وجه الهجمات الحوثية على السفن التجارية التي تعبر "باب المندب" أعلنت أميركا في 18 ديسمبر/كانون الأول 2023 إطلاق عملية "حارس الازدهار" وهي مبادرة أمنية تتكون من قوة حماية بحرية متعددة الجنسيات، تحت مظلة القوات البحرية الدولية المشتركة، و"قوة المهام 153″ التابعة لها.
أسامة رشيد
مصطفى ناجي
عبد الرحمن الراشد
عمر سمير
بشرى المقطري