كل هذا التعقّل الإيراني

18-09-2024 11:55:10    مشاهدات368

واي إن إن - ايمن النبيل

منذ دخول إيران في معمعان المجال العربي بعد وقائع عام 2011، يصبح أحد الأسئلة التي تخصّنا، نحن العرب: كيف تفكّر الجمهورية الإسلاميّة في إيران في الشأن الخارجي؟. ... في مبتدأ الأمر ونهايته، تتصرّف إيران دولةً قوميّةً؛ أي دولة تحدّد المصالح والمخاطر سياساتها، والوظيفة الرئيسة عند نظامها هي المحافظة على نفسه، مثل أي نظام سياسي آخر. منذ تعامل الخميني مع إسرائيل والولايات المتحدة كما ظهر في فضيحة إيران – كونترا (بيع أسلحة أميركية إلى إيران مقابل إفراح عن محتجزين أميركيين في 1985)، والخدمات الإيرانية المهمة للأميركيين في غزو أفغانستان، وتعاونها معهم في العراق، كان واضحاً تمرّس النظام الإيراني في مسلك البراغماتيّة وحدود علاقة خطابه بسلوكه. ... لماذا إذا يبدو موقف إيران من الإبادة في غزّة أقلّ من المتوقع، بل وربما خذلانًا رغم معرفة هذا كله؟ ثم إن الدول تدعم حركات الكفاح المسلح، لأنها لا تستطيع خوض الصراع بنفسها، لماذا إذاً يُنتظر من إيران أو أذرعها في غمرة الدماء والأشلاء والدموع أن تتورّط بنفسها في الصراع إنقاذاً للمقاومة الفلسطينية والشعب الفلسطيني، عوضاً عن رفع العتب المسمّى بلغتهم إسناداً؟
أحد الأسباب، وليس أهمها، أن العقلانيّة الإيرانية البازارية سياسيّاً تقابلها لاعقلانية في الخطاب الرسمي تكاد تكون هِستيرية. عباراتٌ مثل "سنمحو إسرائيل من الخريطة" مُحبَّبة عند الخطاب الإيراني، ولا يُطلقها كُتاب مقرّبون من النظام أو صحف رسميّة، بل قيادات سياسية وقادة عسكريون كبار في الحرس الثوري. لهذا الخطاب المهستر فوائده في حالات غياب الاحتكاك المباشر مع إسرائيل؛ هو يحشد القاعدة الاجتماعية للنظام ويعزّز ذُهان حواضن المليشيات العربية التابعة لإيران أو المتحالفة معها. علينا أن نتذكّر أن خطاب الأنظمة الشعبوية العربية في الستينيّات لم يتدهور إلى المستوى الإيراني. ومع ذلك، صيغت على أساس تناقضاته مع واقع النظام واحدة من أتعس حالات التنكيل البلاغي والتعيير السياسي وأطولها عمراً.
على كل حال، يصبح هذا الخطاب نفسه في ساعة اقتراب الصدام عبئاً على صاحبه، كما يحدث حالياً للنظام الإيراني، لأن كل ما يمكن فعله واقعيّاً لن يرقى إلى وعيد الخطاب، ناهيك عن أن إرهاصات الصدام تكشف حقيقة القدرات العسكريّة للطرفين (إسرائيل وإيران وحلفائهما)، وأن أقصى الممكن ليس خياراً إيرانياً بالأساس. ولأن التناقض مادّة كل فكاهة، يظهر التعقل الإيراني البارد مهزلةً، ولكن يبدو أن جل المهازل في الدنيا تنطوي بداخلها على شيء مأساوي، وهنا نتصل بالسبب الثاني والأهم.
أنزلت إيران نكبات على المشرق العربي، وإنسانياً وتاريخيّاً نحن نتحدث عن اندثار حضاري: خراب العُمران البشري وانفراط الهيئة الاجتماعيّة وإزاحات ديمغرافيّة عنيفة تحتاج لكي تحدث في ظروف "طبيعيّة" عقوداً أو قروناً. فعل النظام الإيراني ذلك بعقلانيّة محضة وبعنفٍ يلائمها عادةً؛ ذلك العنف المثابر الذي لا يعرف الحدود. تصرفت إيران في سورية والعراق بمبدئها البسيط: الخوض الحاسم للمعارك اجتناءً للمكاسب ما دام ذلك لا يشكّل خطراً على وجود النظام. ولكن هذا المبدأ الدولتي التوسعي محقونٌ بالطائفيّة ومرقّشٌ أيديولوجيًا بالقضيّة الفلسطينية. من هنا يشق على المرء الصاحي تجنُّب المقابلة بين زج إيران قضها وقضيضها في سوريّة "من أجل القضية الفلسطينيّة"، وانضباطها المثالي حين تجري عمليّة سحق القضيّة وإبادة أهلها، بل وتُضرب في أثنائها إيران ذاتها ضرباتٍ محرجة وموجعة. حتى الفاشيُّون صادقو الاعتقاد بمبدأ محق شعوب ودول وكل شيء وأي قيمة "من أجل فلسطين" يرون الآن أن إيران ومليشياتها الطائفيّة العربيّة يتقبّلون سحق فلسطين ذاتها إن كان ذلك سينقذ نفوذ إيران.
كان كتّابٌ وسياسيون كثرٌ على علمٍ بهذا كله قبل يوم "طوفان الأقصى"، ولكن سؤالاً أقل سذاجة مما يبدو عليه يخطر هنا: هل كانت المقاومة في غزّة تدرك ذلك أيضاً؟ على عكس ما هو شائع، ثمّة أمورٌ أوضح عند المراقبين للأحداث منها عند صانعيها، لأن عند الأوائل فسحة التأمل والنظر، ولأنهم، في مفارقة مألوفة، يجهلون تفاصيل كثيرة. لترجيح الاحتمالات في الإجابة عن السؤال صلة بحدث السابع من أكتوبر ذاته: هل خطّطت المقاومة الفلسطينية أن يكون "طوفان الأقصى" بذلك الارتفاع الشاهق، أم أن العمليّة حققت نجاحاً عسكرياً لم يتخيّله أصحابها؟ إن كان الأول، فإن الأرجح أن المقاومة قامرت بأنها بتلك العمليّة تنقذ القضية الفلسطينية من موتها البطيء فاتحةً الباب أمام إيران (عبر حزب الله) نحو حربٍ تُغيّر التوازن الاستراتيجي في فلسطين والمنطقة. وفي بيان قائد هيئة أركان كتائب الشهيد عز الدين القسام، محمد الضيف، يوم انطلاق عملية طوفان الأقصى، دعوة صريحة إلى محور المقاومة للمشاركة الهجوميّة منذ اليوم الأول. وهذا يعني أن المقاومة لم تدرك جيداً متانة عقلانيّة الدولة الإيرانية ومليشياتها، ووزن القضية الفلسطينية الفعلي في استراتيجيتها. أما إن كان الثاني فإن المقاومة بعد أن وقع ما وقع لم تجد بُدّاً من الأمل في تصاعد التناقض بين إيران وإسرائيل إلى نقطة تدفع الإيرانيين نحو تحريض حزب الله على دخول الحرب.
في الاحتمال الثاني، فهمت المقاومة أولويات إسرائيل جيداً، بل وكاد أملها في أقلمة الحرب يتحقق أكثر من مرّة، ولكن التعقل الإيراني والموقف الأميركي منعا ذلك. في ذلك الأمل ذاته سوء فهمٍ لموقع إيران في العالم؛ إيران وهي تناور ضد الولايات المتحدة وإسرائيل لا تقارع الإمبريالية ولا تناطح الصهيونية، بل هي دولةٌ تبحث عن مكانٍ لها في نادي الأقوياء، ويتمنّى نظامها وطبقتها الوسطى المدينيّة أن يكون مقعدها بجوار الغربيين، لا روسيا والصين، ولن تحرجها مطالبات حلفائها بالدعم علناً، إن كان ذلك يهدّد نفوذها، ولن يخرجها من تعقّلها إهانة إسرائيل أمنَها وسيادتها. هذا علاوة على الرفض الأميركي لمهاجمة إسرائيل إيران وضربها. تناقض إيران مع إسرائيل حقيقي وعميق، ولكنه، في النهاية، تناقض نفوذ وليس تناقض وجود، بحيث يمكن جرّ إيران أو حتى إقناعها بجرّ أذرعها التي استثمرت فيها طويلاً إلى حربٍ زبون تهدّد وجود النظام أو نفوذه ببتر أذرعه.
إن نجت المقاومة الفلسطينيّة من هذه الحرب، فستواجه تحدّياتٍ تخص كيفيّة التعامل مع إيران ودعمها المحدود والمكلف سياسياً وأخلاقياً الذي يستحيل على هذا المنوال أن يوصل إلى نتائج معقولة للقضية الفلسطينية. وسيراجع النظام الإيراني آليات عمله مع المقاومة الفلسطينية بعد أن أفزعته وكادت تجرّ عليه حرباً مدمّرة بتحرّكها المنفرد في السابع من أكتوبر. أما إسرائيل فتبتغي، بقيادة نتنياهو، اهتبال الفرصة لتصفية كل الحسابات دفعةً واحدة: تصحير غزّة، وإعادة احتلال الضفة الغربية، وضرب حزب الله، وتدمير البرنامج النووي الإيراني. ورغم أن أمنيات إسرائيل الإقليمية لا تلقى تجاوباً أميركياً، فإن سلوك إيران المنضبط قد يُغري إسرائيل بالإلحاح على الولايات المتحدة إذا عاد ترامب إلى الحُكم؛ لأن إيران لن تخوض حرباً تهدّد وجود نظامها، إلا إن كانت الحرب تهدف إلى خلع النظام. ولهذا، بالإمكان تخيُّل تعقلٍ إيرانيٍ أخير: أن يستوعب النظام ضربة قاصمة لمشروعه النووي، كما فعل العراق في الثمانينيات، إذا أدرك أن خوضه حرباً ردّاً على ذلك يعني زواله.
* نقلاً عن العربي الجديد 

إعلان
تابعنا
ملفات