شوك وقرنفل يحيى السنوار: ضدّ موت المؤلّف

20-10-2024 09:14:30    مشاهدات341

واي إن إن - متابعات

لم تنل رواية يحيى السنوار، "الشوك والقرنفل"، كبيرَ اهتمامٍ في العالم العربي، لكنّها سرعان ما أصبحت الأكثر قراءةً بعد نشر خبر استشهاده.
يصبح خطاب الفرنسي رولان بارت في كتابه "نقد وحقيقة"، وفي هذه الحالة تحديداً، خطاباً مباشراً وصريحاً ويتوجّه إلى الهدف مباشرةً. تتملّص كلمتا "موت المؤلّف" من النظريات والسياقات المعرفية، تنفكّ من كونها مجازاً، وتصبح حقيقةً مجرَّدة: موت المؤلّف هنا، بالمعنى الحَرفي للكلمة، هو ما يُشكّل أدبه. ويصير استشهاد السنوار هو تماماً روايته "شوك وقرنفل". الموت هنا (وفي حالتنا هو الاستشهاد) هو صانع النصّ، هو صانع التلقّي، وهو في المقام الأوّل علّة القراءة وسببها. وإذا ما اعتبرنا السنوار، بمعزلٍ عن كلّ أدواره الأُخرى، "مؤلّفاً"، فإنّ "موته" هنا يُصبح تحصيناً ضدّ الموت نفسه.
موت المؤلّف: حياةٌ أُخرى
ما حاول بارت قوله في أطروحته القصيرة "موت المؤلّف" هو أنّ ابتعاد المؤلّف ليس حدثاً تاريخياً أو فعلاً كتابياً فقط. إنّه يُحوّل النصّ الحديث من أدناه إلى أعلاه (أو إنّ النص ليُصنَع من الآن فصاعداً ويُقرأ بطريقة تجعل المؤلّف غائباً عنه على كل المستويات). إنّنا لَنَعرف الآن أنّ النصّ ليس سطراً من الكلمات يَنتج عنه معنى أُحادي، أو معنى لاهوتي (لرسالة جاءت من قبل الله)، ولكنّه فضاء لأبعاد متعدّدة، تتزاوج فيه كتابات مختلفة وتتنازع، فالنصّ نسيجٌ لأقوال ناتجة عن ألف بؤرة من بؤر الثقافة.
وقد سبقه إلى قول ذلك نقّاد وكتّاب أوروبيون كثر؛ مثل مالارميه الذي دعا إلى ضرورة إحلال اللغة ذاتها محلّ من كان مالكاً لها، فاللغة هي التي تتكلّم وليس المؤلّف. ولابدّ من الإشارة أيضاً إلى جهود بول فاليري الذي كان دائم السخرية من المؤلّف ودائم التأكيد على أنّ اللجوء إلى دواخله خرافة، وأنّه لا بدّ من التركيز على البنية اللغوية لعمل المؤلّف وإقصائه عنها.
ينتهي دور المؤلّف، حسب هذه الأطروحة، بكتابة النصّ، ثمّ يقع العبء على القارئ في عملية القراءة، عبء تعدّدية المعنى واختلافه وتوليده، أو إعادة إنتاج النصّ.
قام شعار المدرسة البنيوية في القرن الماضي، لا سيما في أطروحة موت المؤلّف، على الجملة التالية: "مولد القارئ ينبغي أن يقابله موت المؤلّف". تصبح هذه المعادلة مستحيلة التحقّق مع السنوار.
أنهى الرجل كتابة روايته وهو في معتقل في بئر السبع سنة 2004.
في الأصل، الحُكم النقدي على أدب السجون أو الأسرى هو حكمٌ ملغوم؛ إذ لا يمكن الفصل بين تجربة الأسير (سيّما إن سمّاها "مسلخ غزة"، مثلاً، كما فعل السنوار) وبين أدبه. المادّة الأدبية هنا هي مادّة تسجيلية تأريخية، حجّة تاريخية، توثيق، كلُّ كلمة فيها تاريخ وتأريخ حتى لو كان جزءٌ منها خيالياً.
ثمّة أسرى كثيرون حاولوا القفز عن هويتهم كأسرى والإبقاء على هويتهم كمبدعين. عانى باسم خندقجي مثلاً من هذا الربط طويلاً، واحتجّ عليه. لكنّ خندقجي كاتب في المقام الأوّل، أمّا دور السنوار فمختلف: قائد، مهندس حرب.
القفز أو التجاوز لمسألة أنّ المؤلِّف "أسير" شيء نادر، حضر مثلاً في التجارب الروائية لأسامة العيسة، وباسم خندقجي، وإسماعيل رمضان، إذ كتب هؤلاء الثلاثة بما يتجاوز سمات أدب الأسرى. لكنّ نهاية "قناع بلون السماء" لخندقجي تعود فتتشير إلى أنّ التجاوز صعب، إذ يجيء في نهايتها: "تمّت، 2021، سجن جلبوع الكولونيالي".
لم يكن السنوار صاحب مشروع روائي، اكتفى بقول قوله هذا في "الشوك والقرنفل" ولم يعُد إليه. الكتابة، كمشروع هنا، هي شيء متّصل بمشروعه المقاوِم عموماً، ولا يمكن أن ينزاح عنه.
من التقديم نفسه للرواية يُحدّد السنوار خطابه: "كلُّ حدث منها أو كلّ مجموعة أحداث تخصّ هذا الفلسطيني أو ذاك... وكلّ ما سوى ذلك حقيقي، عشته أو عاشوه".
إعلان فعل "العيش" هذا يُحدّد للقارئ كيف يمكن أن يتعامل مع المادّة التي بين يديه: هذه قصّة حياة، معايشة.
واستشهد السنوار، فشاهدنا معايشة الموت أيضاً، كما صوّره "درون" الاحتلال: يجلس السنوار بلثامه على أريكة وكأنّه ينتظر ضيفاً، ظهرُه منتصب على الرغم من الإصابة، والصدر مرفوع رغم ضيق النفس.
يرمي آخر ما تبقّى معه، عصا صغيرة من خشب، يرميها إلى الخلف بقفا يده كي يصيب بها المسيّرة، ويُكمل تحديقه إلى أمام. آخر سلاح بدائي تبقّى في مواجهة أعتى أسلحة القرن: كائن يطير ويلتقط صوراً ويصنع أشرطة مصوّرة ويمكن أن يقتل ويفتك ويدمّر.
هذه المرّة رأينا، شاهدنا بأمّ العين كيف "يموت" الرجل. شاهدنا كيف ترمي يده العصا، وكيف ينتظر ضيفَه: "الموت" (في حالتنا الشهيد حيٌّ يرزق عند ربه).
كما أنّ الحكاية كاملة نشرها مراسل إذاعة جيش الاحتلال، نقلاً عن شهادة أحد الجنود: "توجّهنا لتفجير مبنى ليخرج منه أربعة مقاتلين، ثم ظهر مقاتلٌ آخر ليبدأ بإلقاء القنابل باتجاه الجيش. أُطلقت النيران على أربعة مقاتلين وقُصف البيت الذي تُرمى منه القنابل بعدة قذائف من الدبابة. لم ننجح بقتل رامي القنابل (السنوار). صُوّب باتجاهه صاروخٌ محمول من جندي، وأرسلنا مسيّرة للتثبّت من مقتله، لكنّه لم يكن قد قُتل؛ حيث بدأ بإلقاء الحجارة والخشب على المسيّرة وأسقطها وكان مصاباً. رفع رأسه بعدها فتمكنّا من إصابته برصاصة في رأسه. حصل ذلك في المساء. عدنا في اليوم التالي لتفحُّص الجثمان، ليتبيّن أنه السنوار".
من هنا تصبح العبارة البنيوية على هذا النحو: مولد المؤلّف يجب أن يقابله موت المؤلّف.

القابل للقراءة والقابل للكتابة
تُقسَّم النصوص حسب استهلاكها، وفقاً لبارت. هناك نصّ نصفه بأنّه قابل للقراءة، إذا كانت قراءته ممكنة، لكنّ إعادة كتابته غير ممكنة، ونصِف نصّاً آخر بأنّه قابل للكتابة إذا كان بالإمكان إعادة كتابته، وهذا ما يدعو إلى قراءة فعّالة ويجعل من القارئ منتجاً للنص. يؤكّد بارت أنّ الكاتب غير موجود إلّا عبر تعدُّدية القراءة التي توفّرت لعمله: "إنّ ما يُفعّل النص هو القارئ". هذه المرّة، يُعيد السنوار نفسه الكتابة. نهاية الرواية هي نهايته، على اختلاف بعض جزئياتها.
انتظر يحيى السنوار عشرين سنة كي يُحقّق أيضاً معايشة مقطعه الأخير في الرواية. أعاد إنتاج نصّه، عبر الفعل. فعّل نصّه. لم ينتظر قارئاً ولا قرّاء. يتمثّل الفعلُ هنا في أنّه معايشة وإعادة إنتاج في آن. ما الذي تُرِك للقارئ كي يعيد كتابته؟ لا شيء إلّا المشاهدة.

إعلان
تابعنا
ملفات